تعتبر مقبرة الجنود البريطانيين في بغداد أحد الشواهد التاريخية على حقبة زمنية معينة وثّقت أحداثًا للحرب والدمار والاحتلال الذي كان في العراق والتي تضمنت رفات عدد من الجنرالات البريطانيين، والتي تحيطها مراكز التعليم العالي من الكليات التابعة إلى جامعة بغداد. وتعد هذه المقبرة صديقة لعدد كبير من الطلبة الذين يدرسون في مجمع باب المعظم لجامعة بغداد، لكنهم للأسف لا يعون مصداقية كونها مقبرة وتضم رفات حقيقية لضباط بريطانيين ويعتبرونها متنزها أو حديقة لا يخشون أرواح ساكنيها.
ويحبّذ سيّاح عرب وأجانب بالإضافة إلى أبناء البلد ممّن يرومون زيارة المعالم التاريخية في بغداد، التمتع بالتجول في مقبرة الجنود البريطانيين، وهي مقبرة (البوابة الشمالية)، التي تضم قبور الجنود الإنجليز الذي اشتركوا في معارك بلادهم أثناء احتلال العراق في مطلع القرن الماضي، وقُتلوا أثناء معارك شرسة مع الجنود العثمانيين.
وقد أثّرت عوامل التعرية على مقبرة الجنود البريطانيين داخل منطقة الوزيرية في بغداد بفعل الظروف الجوية القاسية لاسيما في فصل الصيف مما أسهم في محو الكثير من الكتابات الدالة. وفي هذا المكان الواسع، فإن من النادر أن تجد زوّارًا، لاسيما وأن المكان عانى الإهمال فترة طويلة من الزمن على رغم أهميته التاريخية. ويقول جاسم غالي الذي يشرف على المقبرة، أن الفترات الماضية شهدت زيارة الكثير من الوفود البريطانية والأجنبية. وتابع قائلا، وهو يخطو بين القبور خطوات متعثرة : لا يزور هذا المكان في الوقت الحاضر سوى أصحاب الاختصاص المولّعين بالتاريخ. وبحسب جاسم فإن وفدا بريطانيًا زار المقبرة بعد عام 2003، ووعد بتنظيفها وترميمها حيث استبدلت الشواهد التالفة والمتضررة بأخرى جديدة.
ويعود تاريخ هذه المقبرة إلى أيام الحرب العالمية الأولى في عام 1914 حيث ووري جثمان بعض قتلى الجيش الإنجليزي والمتحالفين معهم عند دخول العراق وبالذات بغداد، عندما رفعوا شعار (جئنا محررين لا فاتحين). وتضم هذه المقبرة بحدود 2500 ضريح لجنود وضباط من الجيش البريطاني، والاسترالي، والهولندي، والباكستاني، والهنود، والسيخ وبعض من العرب المصاحبين للجيش كمترجمين.
ولان وجود هذه المقبرة بالقرب من المجمع الجامعي للكليات والتي تعتبر المركز العلمي لتحصيل شهادات البكالوريوس اكتشفنا إن اغلب طلاب المجمع لا يعون أي معلومة عن هذه المقبرة رغم إنها مؤنسهم في الطريق وجليسهم في متنزهاتهم القريبة من المقبرة والملاذ المناسب للعشاق الذين يختلون بحبيباتهم بالقرب من أجواء تكاد تكون هي الأقرب إلى الرومانسية الميتة لكن من نوع خاص، فالأضرحة لرفات الضباط البريطانيين تشهد كل يوم جلسات لعشاق يتناغمون الحب على مقابرهم ويتبادلون الزهور من على أضرحتهم، والبعض الآخر يدرس وقت الامتحانات بالقرب من هذه القبور لما تمتاز به من أجواء الهدوء.
فيقول الطالب مصطفى يد الله إن "ما أعرفه إنها مقبرة لأشخاص بريطانيين لكن لا أعلم من هم وبصراحة أحب هذه المقبرة فشكلها يؤنسني وهي مرتّبة ومنظمة بشكل يجذب الارتياح ودائما أتساءل يا ترى هل استطاع أصحاب هذه القبور توديع أهلهم وهل يعرفون بأن جثاميهم مدفونة هنا، وأنا حين أمر من أمامها يوميا للدوام لا أشعر برهبة الخوف من المقابر كما أشعرها في مقابرنا العادية فهي لا تحمل رهبة المقبرة".
وتقول الطالبة آية عصام "أمر كل يوم بجانب هذه المقبرة وأعود في المساء أسير بالقرب منها ولا اشعر بأي خوف، وبصراحة لم أكن اعلم إنها مقبرة وتوقعت أن تكون مقبرة وهمية، فلا أصدق بوجود جثمان مدفون فيها إلى أن اخبرني والدي في إحدى المرات إنها تحوي جثامين بريطانيين قضوا نحبهم في العراق أثناء الحرب العالمية ولا اعرف من هم ولا اعرف أسماء قبورهم، وبصراحة هي لا تحمل وحشة المقابر كما تحملها مقابرنا فهي مرتبة بشكل جميل ولا نخشى السير قربها في نهاية الدوام وبخاصة أصحاب الدوام المسائي فأغلب المواصلات تقف قرب هذه المقبرة".
ببنما تقول هديل احمد "اسمع كثيرا أن هذه المقبرة للإنجليز لكن لا أصدق بوجود جثامين حقيقية، ويقال إنها مقابر وهمية ولا اعتقد بمصداقية وجود قبور حقيقية فيها لأنها لا تحمل رهبة المقابر وهي مقبرة كما يقول المثل أليفة وغير مخيفة فنحن نعلم إن المقابر دائما تكون مخيفة". وتحتوي هذه المقبرة على مرقدين لشخصيتين مهمتين في تاريخ احتلال بغداد واستقلالها كما يقول الأستاذ احمد زردشت وهو كاتب ومؤرخ ومؤلف وأديب.
*قبري ستانلي مود والمس بيل
ويضيف لـ"لايف ستايل" لقد تم تنظيم هذه المقبرة بشكل مرتّب نهاية السبعينيات من القرن الماضي وتم تزهيرها بالأشجار والزهور حتى أصبحت تكاد تكون روضة من رياض الأرض، وأتذكر جيدا عندما كنت أزور تلك المقبرة لاستنشق الهواء النقي وأمتع ناظري بمنظر الأشجار والزهور التي توسطها صليب التضحية كشاهد بارز على العصور للتاريخ كنت أقرأ ما كتب على شواهد القبور المنحوتة من الحجر على شكل صليب حيث دفن في هذه المقبرة الجنرال (ستانلي مود) قائد القوات البريطانية التي احتلت بغداد يوم 11 آذار 1917 حيث توفي فيما بعد اثر إصابته بمرض الكوليرا .
كما دُفن في هذه المقبرة عالمة الآثار (جيرترود بيل) المعروفة بـ(مس بيل) وهي من مواليد 14 تموز 1868 وقد توفيت في 12 تموز 1926 وكانت مستشارة المندوب السامي البريطاني السير (برسي كوكس) وقد دخلت العراق عام 1914 وكانت تتمتع بعلاقاتها الواسعة وكثرة معارفها وخبرتها المستفيضة عن العراق وهي التي اقترحت تأسيس مجلس الدولة العراقية وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق، كما كان لها الدور الكبير في تأسيس المتحف العراقي.
رسمت حدود العراق
ويُنسب إلى ترود بيل، التي كانت مستشارة شرقية للحكومات البريطانية، ترسيم حدود دولة العراق الحديثة من بين انقاض الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى. ووضعت بيل والمستعمرون حدود العراق بدمج اقاليم الموصل وبغداد والبصرة، التي كانت تحت السيطرة العثمانية في مسعى لتأمين المصالح البريطانية، من دون وضع اعتبار يذكر للحدود القبلية والعرقية.
وكتبت بيل التي كانت متخصصة في اللغتين العربية والفارسية لوالدها عام 1921 قائلة: "امضيت نهارا جيدا في المكتب، وانا اضع حدود الصحراء الغربية من العراق". وتمخض ذلك عن دولة مركزية تعيش فيها ثلاثة تجمعات لها أهداف ومبادئ ومعتقدات مختلفة، هم الأكراد في منطقة الشمال الجبلية والشيعة في الجنوب والعرب السنة في بغداد وباقي وسط البلاد.
وفي عام 1958 تمكّنت مجموعة من الضباط الوطنيين من الاطاحة بالنظام الملكي، الذي ساعدت بيل على ارسائه، من خلال استفتاء مزيف في عام 1921، حظي فيه النظام بالموافقة بنسبة 96 في المائة. كما ساعدت بيل ايضا على صياغة الكثير من السياسات التي تبناها في وقت لاحق حزب البعث بقيادة صدام حسين، والتي ساهمت في تفاقم التوترات القائمة منذ قرون بين الشيعة والسنة.
*بيل والسلطة بيد السنة
وعملت بيل على ضمان ان تهيمن صفوة من السنة، التي كان يفضلها النظام العثماني السني على الحكومة والجيش، وأن يستمر قمع الاغلبية الشيعية، التي كانت تعتبرها متطرفة دينيا. وحرم الاكراد من الحكم الذاتي حتى تتمكن لندن من السيطرة على حقول النفط في كردستان، وبناء رادع ضد الروس. وكانت بيل التي تنحدر من عائلة ارستقراطية، تعيش في بغداد التي كانت اكثر رقيا، مقارنة بالعاصمة العراقية الان، التي تعد أبرز مظاهرها اكياس الرمال والمركبات المدرعة وانقاض مبان حكومية من عهد صدام.
وقبل خمسة اعوام من وفاتها عن عمر يناهز 57 عاما بسبب جرعة زائدة من الحبوب المنومة عام 1926، كتبت بيل قائلة: "يمكنكم ان تعتمدوا على شيء واحد.. لن اشارك ابدا في صنع ملوك مرة أخرى. انه ضغط اكبر من اللازم". وعندما دُفنت خرج الآلاف الى الشوارع ليلقوا نظرة على نعشها خلال رحلته الاخيرة إلى المقبرة البريطانية في حي الباب الشرقي ببغداد.
ويتحدث الدكتور فارس إبراهيم الكاتب رئيس المكتب الإقليمي للدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط سابقا عن الجانب السياسي والإعلامي لوجود هذه المقبرة في بغداد : تعتبر المقابر البريطانية في بغداد هي مقابر بروتوكولية، بمعنى إن هناك اتفاقية بين الحكومة العراقية والحكومة البريطانية وُقع في عام 1958 تحديدا بعد الانقلاب العسكري الذي حدث على الملك أبان حكم (عبد الكريم قاسم) وهذه الاتفاقية تشير إلى ما لا يقبل الجدل إن أي تلاعب بنقل هذا الرفات لا يمكن أن يتم إلا بموافقة الحكومة البريطانية وبما إن الحكومة البريطانية وقعت ذلك وبصمته في الأمم المتحدة وفق المادة (136) والتي تشير إلى انه لا يمكن التقرب أو التحرش أو مجرد نقل هذه الرفات إلا بعلم الحكومة البريطانية.
وأضاف إلى ذلك إن الحكومة العراقية وقعت على بروتوكول واضح المعالم ينص على إدامة وتحسين وعدم التعرض لهذه المقابر بأي شكل من الأشكال، ولعل أبرز دليل على ذلك بأن صدام حينما حاول أن يزيلها عام 1997 اعترضت الحكومة البريطانية وغرمته مئة مليون دولار، واضطر مرة أخرى أن يقيم مقبرة لهم بالقرب من الطب العدلي قرب وزارة الصحة وتحسين المقابر وتسييجها وترتيبها وحتى تشجيرها مقابل السفارة التركية حاليا في منطقة باب المعظم وبذلك أعطت هذه المقابر دلالة على احترام رفاتها.
وبريطانيا كانت ذكية جدا لأنها أرادت أن توحي كما تصنع الجسور في كل بلد وتلاحظون إن أغلب الجسور الموجودة في العراق تشير إلى أنها من صناعة بريطانية، وأن إصرار بريطانيا على وجود هذه المقابر دلالة على عرشها وطول باعها وعلى سطوتها في منطقة الشرق الأوسط ضمن حقبة معينة التي كانت تسمى (بالدولة التي لا تغيب عنها الشمس) وهي دلالة على سطوتها السياسية والعسكرية، وهي مصرّة على بقائها وعدم إزالتها بالرغم من إن صدام منحهم ثلاثة ملايين دولار من أجل إزالتها إلا أن الحكومة البريطانية مع ضائقتها المالية أصرت على بقاء هذه المقابر، لأن في ذلك دلالة سياسية وعسكرية وتاريخية تعتز بها الحكومة البريطانية وحين وجهت وزارة الخارجية العراقية كتاب إلى الخارجية البريطانية في (6 يوليو/تموز1999) طلبت فيها إزالتها ، ردت وزارة الخارجية البريطانية بالشكل التالي "لا تنسوا بان هذه رفات جندا كانت تحمل علم بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس" وهي دلالة على احترام الاتفاقيات وبذلك لا يمكن للعراق أن يُغيّرها إلا بموافقة أممية وبتصويت وموافقة الحكومة البريطانية وأن هذه المقابر سوف تبقى إلى أبد الدهر كما يبدو.
وهناك تعتيم من قبل الحكومة العراقية لأنها تمس السيادة الوطنية وبالتالي لا يُشار إليها ولكن حين تدخل إلى مواقع صحيفة في بريطانيا مثل (ساندي، وديليمير، والتايمز البريطانية) سنجد هذه البنود موجودة ومنشورة تعتمد في التسعينيات من القرن المنتهي فبريطانيا تنشرها لأن في ذلك حفاظ لكرامتها ولسطوتها ونفوذها وتأكيد لسطوتها العسكرية والسياسية، لكن العراق يتعتم على هذا الأمر لأن في ذلك نقص إلى حد ما في السيادة العراقية، لان مجرد وجود هذه الرفات لهؤلاء الجنود هو تدنيس كما ترى الحكومة العراقية للتراب العراقي وتأكيد لحقبة مظلمة من الاحتلال البريطاني، وبالتالي ربما يتنافى مع الدستور العراقي والاستقلال العراقي وعموما من الجانب العراقي هناك تعتيم، لكن من الجانب البريطاني فهو مفتوح ومن الممكن أن يدخل أي مواطن على المواقع السياسية وسيجد ذلك موجود تماما، وحتى لو دخل على قائمة المادة (136) سيجدها واضحة تماماً.