تعيش النساء أحيانًا في بلد دخل الألفية الثالثة، ولا تزال أغلب قوانينه وتشريعاته المعمول بها جامدة ومجمّدة عند قرن مضى وانقضى بقيمه ومفاهيمه وعلاقاته، وحين تقبع النساء تحت سطوة قانون للأحوال الشخصية تعود أحكامه للقرن التاسع عشر في أكثر العلاقات الاجتماعية حساسية، وعندما لم تزل المرأة تُحشر داخل "حرملك قدري باشا وأسوار أحكامه"، على رغم بلوغها مكانة ومرتبة علمية واجتماعية لم تعرفها تلك الأحكام، حينها، لا بدّ لها إمّا أن تتعايش مع واقعها بخنوع تقليدي صرف، أو أن تبحث لها عن ملاذٍ ينتشلها من واقعها الموجع بكل حيثياته وتفاصيله، لا سيما أن الحركات النسوية السورية حتى اليوم لم تصل لما تصبو إليه في تعديل مواد تمييزية عدة تعجُّ بها القوانين السورية، وكذلك تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي يحتاج صراحة للتبديل بدل التعديل لما يكتنفه من تناقض صارخ مع واقع ليس المرأة وحسب، وإنما الأسرة السورية كلها.
وحين نشبت الحرب في سورية، وبدأت معها موجات الهجرة والنزوح واللجوء سواءً داخل البلاد أو خارجها، وجدت فتيات ونساء عديدات في الأمر متنفسًا وخلاصًا شبه حقيقي مما يُعانينه داخل مجتمعاتهن الضيقة، فكثيرات من اللواتي كّنَّ قبل الحرب في بيئات ريفية مُتشددة، ونزحن إلى المدن الكبيرة والمنفتحة إلى حدٍّ ما حاولن كسر بعض قيودهن التقليدية المتعلّقة بالخروج من البيت سواءً للعمل أو الدراسة أو التنزّه مع أصدقاء حتى من الجنس الآخر، أو التخلّي عن زيّ تقليدي اعتُبر منتهى الحرية بالنسبة لبعضهن، إضافة إلى أن عددًا منهن بات يرفض العودة إلى مناطقه إن انتهت الحرب.
أمّا بالنسبة للواتي هربن خارجًا، فما إن حطّت بهن المقام في عدد من بلدان الغرب التي قصدنها، والتي وجدن فيها ملاذًا آمنًا من عسف المجتمع وظلمه، وإنصافًا لحقوق أهدرتها القيم الاجتماعية والدينية وحتى القانونية القائمة على التمييز ضدّ النساء، حتى بادرن إلى طلب الطلاق كخطوة يُردن من ورائها السير في دروب حقوقهن وحياتهن بعيدًا من الظلم والقهر والعنف بتلويناته وأشكاله، وأولها تعنّت الزوج ورفض المجتمع لمسألة الطلاق التي أباحها الشرع، واعتبار المطلّقة إنسانة لا تحظى بالتقدير الاجتماعي، بل هي دائمًا مثار شكوك واتهامات حتى من أقرب المقرّبين.
وكثيرات ممن كنّ يُعانين من ضرب مبرح يلوّن خريطة الجسد وهنّ صامتات، حين هاجرن لجأن إلى الشرطة والقانون عندما مارس الزوج ساديته المعتادة في الوقت الذي كُنّ يمتنعن عن إبلاغ الشرطة في بلدهن خشية المحيط الاجتماعي.
سناء فتاة لم تبلغ بعد من العمر عشرينه، قالت والـ آه تخنق ما تبقى من روحها: "كل ما أريده أن أهاجر مع زوجي إلى أوروبا كي أحاكمه وأوجّه له دعوى اغتصابي، كما أريد أن أوجّه إلى أبي تهمة بيعي وتزويجي من دون موافقتي وفق شرع الله، فهل أستطيع؟".
لا شكّ أن تلك الصرخة هي تعبير صريح عن صرخات كثيرة أخرى مكتومة ومكبوتة في نفوس كثيرات ممن لم يتمكّنَّ من إطلاقها، في حين أنها لاقت صداها لدى عديدات ممن عرفنا بهن أو سمعنا عنهن.
و"نهى" الفتاة الجامعية والأم لطفل لم يتجاوز من العمر سنتين، هجرت الجامعة بسبب زواج عاثر انتهى بوفاة الزوج أثناء مشاجرة في الحي، لتجد نفسها محاصرة ما بين أمومة يريد أهل الزوج اغتصابها منها، وما بين قيود أسرية فرضت عليها الحدّ وعدم العودة إلى الجامعة فقط لأنها أرملة وصغيرة، فما كان منها إلاّ أن لاذت بالفرار إلى إحدى البلدان الغربية علّها تجد هناك ما تصبو إليه من إكمال تعليمها أو القدرة على احتضان ابنها مجددًا.
أمّا نوال الصحافية والإعلامية التي كانت تضجُّ بالحيوية والثقافة والنشاط، فقد أوقعتها خيبتها في الاقتران من رجل يكبرها بأعوام كانت كفيلة بإفشال هذا الزواج، وسحق كل آمالها وتطلعاتها المهنية، ذلك أن مفردة الطلاق غير موجودة في قاموس عائلتها، لا سيما أن لها طفلًا عليها رعايته في كنف أبيه مهما كانت النتائج، فهو خيارها وعليها الصبر والقبول بنصيبها هذا، لكنها وبحجة اللحاق بزوجها الذي هاجر مع بدء الحرب، تمكنت من الخروج من شرنقة أحكام العائلة، والحصول على الطلاق بعيدًا من أعين المجتمع الذي كان يُرعب أهلها على الدوام، و"أميمة" أم لثلاثة أطفال، وزوجة لرجل لا سبيل عنده لحل أي خلاف مهما كبر أم صغر إلاّ عضلاته سلاحًا وحيدًا وأوحد في مواجهة أيّ تحرّك لا يرضي مزاجيته من زوجته أو أبنائه، أميمة كانت دائمًا ترفض اللجوء إلى الشرطة لوضع حد لعنف زوجها، مثلما كانت ترفض رفع دعوى قـــضائية ضدّه خشية النبذ الاجتماعي من المقرّبين قبل سواهم، فما كان منها بعد أن غـــادرت البلاد إلى إحدى بلدان الغرب إلاّ الاستنجاد بالشرطة حين واظب زوجها على عاداته القديمة والمقيتة، وعندما لم تُجدِ الحالة معه نفعًا طلبت الطلاق منه.
وهذه هي حال عديدات من نساء مجتمع يقيم عليهن حدودًا متعددة تنتقص من إنسانيتهن قبل أن تنتقص من حقوقهن، فلا ريب أنهن سيتطلّعن إلى منفذ يعينهن في الحفاظ على بقايا إنسانية غالبًا ما تجعلهن في عداد الأحياء فقط من أجل القيام بمهام ملقاة على عاتقهن كالإنجاب والتربية، بينما هنّ في الحقيقة أشباه نساء على هامش الحياة برمتها على رغم أهمية مهامهن وعظمتها التي يُلقيها عليهن المجتمع، وهنا سرّ تخلفه إذ لا يرى في تربية الأجيال مهمة عظيمة تحتاج إلى فكر حرّ واستقلالية وجرأة يمنعها عن نسائه، فهل للهجرة أن تكون مجالًا لمحاولة تعديل نمطية التفكير الشـــرقية في تعــاطيها مع المرأة والمجتمع والقــــانون، مثلما هي ملاذ للنساء من دوامة العنف والتمييز والاضطهاد.