لم تكن الحمامات الشعبية التقليدية حكرا على منطقة أو مدينة بالمغرب دون سواها، فهي ليست وليدة العصر الحالي، وانما هي امتداد يغوص في أعماق التاريخ لما تعطيه من نشاط للجسم، فكانت ولازالت تغص بالناس في نهاية كل أسبوع، وأيام الأعياد، إذ لازال روادها يفضلونها لحاجة في أنفسهم، في ظل المنافسة التي تعرفها من طرف الرشاشات والحمامات العصرية والتركية.
رغم ظهور الحمامات المنزلية الخاصة، أو حمامات البخار العصرية المعروفة باسم "الساونا" أو حتى الحمامات التركية التي صممت بمعايير عصرية لتعوض الحمامات الشعبية التقليدية أو تقوم بنفس دورها، إلا أن لهذه الأخيرة مكانتها الخاصة، فقد مثلث منذ ظهورها إلى يومنا هذا مقصدا شعبيا يجد فيه قاصده ملاذا للتطهر والاغتسال والتخلص من المتاعب الجسدية، والضغوطات النفسية التي تلحق الإنسان طيلة اليوم والأسبوع.
مزايا كثيرة بشهادة رواد الحمامات الشعبية التقليدية جعلتنا نفتح الباب على مصراعيه لمجموعة من الأسئلة التي آبت أن ترافقنا طيلة إجراء الربورتاج، لمعرفة هل رواد الحمامات التقليدية راضون عن مستوى الخدمات التي يقدمها الحمام المغربي التقليدي من ناحية النظافة، أو الخدمات المتعلقة بالمستحمين من الاستقبال إلى نهاية الاستحمام؟ ثم هل لازال المغاربة يقبلون فعلا على الحمامات التقليدية رغم المنافسة التي تعرفها هذه الأخيرة من طرف الحمامات العصرية والتركية؟ وما مدى وعي أرباب الحمامات بالمعايير المعتمدة في دفتر التحملات الخاص بالحمامات التقليدية المتواجدة بالمناطق الشعبية؟
خدمة جيدة إقبال كبير
أسئلة عدة حملتنا لخوض غمار البحث في أماكن تواجد الحمامات التقليدية، وبخاصة المناطق الشعبية في المدينة المليونية، حيث تتركز أعداد كبيرة من الحمامات التقليدية تعد بالعشرات، وقع اختيارنا على منطقة مولاي رشيد بالدار البيضاء الأكثر شعبية والتي تجاوز عدد سكانها عتبة 207624 نسمة، فكل رقعة تابعة للمنطقة لا تخلو على الأقل من حمامين إلى أربع حمامات تستأنف الاشتغال منذ الساعات الأولى من الصباح الباكر إلى حدود منتصف الليل، طيلة الأسبوع.
من خلال التحدث مع بعض أرباب هذه الحمامات أكدوا لـ "الصحراء المغربية" أن الإقبال عليها لازال مرتفعا خاصة خلال فصل الشتاء، وهو الأمر الذي أكده "محماد" صاحب حمام شعبي بالدار البيضاء قائلا: " عرف الحمام التقليدي في السنوات الأخيرة مجموعة من التحسينات على مستوى الخدمات التي يقدمها، مما زاد من اقبال عشاق هذا النوع من الحمامات عليه، فأصبح يحقق نسبة ملء على مدار أيام الأسبوع، بخاصة خلال فصل الشتاء، وذلك راجع إلى وعي الناس بالآثار الصحية للاستحمام على الطريقة التقليدية المتوارثة والمعروفة منذ القدم". وإقبال الناس على الحمام التقليدي لم يكن وليد اليوم فقد اعتاد الناس عليه منذ القدم، تقول الحاجة حليمة امرأة في عقدها السابع، صادفتها وهي تهم بالخروج من أحد الحمامات الشعبية " الحمام نعمة لا يعرفها إلا من دأب عليها فمنذ استقراريبهذا الحي وأنا أرتاد الحمام استحم كل أسبوع" مضيفة والابتسامة تعلو محياها تنم عن رضى تام " زوين هاذ الحمام ونقي".
أثارت فضولي ابتسامة الحاجة حليمة لأدخل الحمام واكتشف بنفسي رضاها التام عن الخدمات التي يقدمها لزواره، مما دفعني إلى الدخول واكتشاف سر خدماته، منذ الوهلة الأولى وفي باب الدخول تتبدى لك ورقة كبيرة معلقة على الجدران، كتب عليها بخط عريض قواعد الاستحمام التي يجب على المستحمون احترامها، دخلت الحمام بعد الاطلاع على قواعد الاستحمام فطلبت مقابلة العاملة او المسؤولة عن الحمام أو ما يعرف "بمولات الرزمة" سيدة في منتهى الوقار تقدم للسيدات تذكرة مرقمة بعد أن يقدمن لها حقائبهن، أما العاملات الأخريات فيقدمن المساعدة للمستحمات داخل الحمام، وبعد أن وجهت لها السؤال عن الخدمات التي يقدمنها للزبونات أجابت: " أهم شيء أننا نعاملهن معاملة تليق بمستوى الخدمة، فهن زبائن قبل كل شيء، فضلا عن المساعدة والاهتمام الذي نوليه لهن وللحمام ونظافته أيضا، ونحرص على تطبيق واحترام قواعد الاستحمام داخل الحمام، فهذا كافي بأن يجلب قدر مهم من الزبائن للحمام، فإذا كانت الخدمة جيدة سيكون الاقبال كبيرا لا محالة".
الحمام للجميع
دأب الكثيرون في المغرب على الذهاب للحمام مرة أو مرتين في الأسبوع للاستحمام، والتخلص من متاعب الجسد طيلة الأسبوع، وطلبا للاسترخاء، فلا تكاد تمر دقيقة واحدة في اليوم بدون ارتياد عشاق الحمام لهذا الفضاء ونحن نتبادل أطراف الحديث مع أحد المسيرين لحمام شعبي بمنطقة مولاي رشيد لاحظنا الأفواج التي تحج من مختلف الفئات العمرية، فلم تفتنا فرصة الاطلاع على أراء رواد الحمام التي اختلفت بين مؤيدين ومعارضين لهذه العادة القديمة قدم تواجد الحمامات التقليدية بمختلف الأحياء فبعضهم يؤكد أن الذهاب للحمام مرة في الأسبوع أمر كافي للاستحمام والتخلص من العياء الأسبوعي، وهو ما صرح به عبد الله من رواد الحمام التقليدي وهو يؤدي ثمن تذكرة الحمام قائلا:" انا أعمل طيلة الأسبوع لذلك استغل يوم الاحد للذهاب للحمام وهي فترة كافية للتخلص من عياء الأسبوع".
في حين ترى نجاة ربة بيت أن الذهاب للحمام مرتين في الأسبوع أمر ممتع قائلة:" اعتدت الذهاب للحمام مرتين في الأسبوع عوض الاستحمام في المنزل، بخاصة وأن ثمنه في متناول الجميع".
تأكيد البعض على الذهاب للحمام الشعبي وملاءمة ثمن التذكرة للجميع يعني للبعض الآخر، مرتعا للأوساخ، والاكتظاظ وعدم احترام معايير النظافة خاصة داخل حجرات الفضاء، وهو الأمر الذي استنكرته أسماء شابة في مقتبل العمر قائلة: " الأوساخ في كل ركن من حمام الحومة وهو الأمر الذي جعلني أعتزل الذهاب إليه، وأفضل الاستحمام في البيت" مضيفة "رغم عملية التنظيف التي تقوم بها العاملات أو " الكسالة" فهي ليست كافية " في حين ترى زميلتها نوال أن عملية التنظيف داخل الحمامات تقوم بها أكثر من عاملة تصل الى ثلاث أو أربع عاملات مما يجعل الحمام نظيفا على مدار الوقت.
في نفس الصدد ارجعت سعاد عدم ذهابها للحمام الشعبي إلى الحساسية التي يسببها لها كلما دخلت إليه او استحمت فيه، قائلة: " منع عني الطبيب الحمام نظرا للحساسية التي يسببها لي على مستوى العين، وكذلك اختناق في التنفس فالتهوية فيه منعدمة حيث يجتمع التنفس في حجرة واحدة، كما أن هناك مشكل تناقل الجراثيم والفيروسات فالحمام للجميع ولا يمكنك معرفة الشخص المريض من الشخص غير المريض"
تضارب الآراء حول الذهاب للحمام بين المؤيدين والمعارضين جعل البعض يعتزل الحمام التقليدي ويفضل الحمام العصري نظرا لما يقدمه من شروط الاستحمام والنظافة.
"منافسة" و"وفاء"
لم تترك الرشاشات والحمامات العصرية والتركية التي بدأت تتناسل بكل بقاع المغرب، مكانا للحمامات التقليدية الشعبية، في ظل المنافسة المحتدة بينهما ودخول المستثمرين الأجانب في مثل هذه المشاريع، فانقسم رواد الحمامات لفئتين؛ فئة ظلت وفية ومتشبثة بالحمامات التقليدية الشعبية، التي تعتمد وسائل بسيطة في تحقيق لذة الاستحمام وبثمن رمزي لا يتعدى 12 درهما للشخص، تحكمها في ذلك طقوس وعلاقة اجتماعية خاصة بكل حي، في هذا السياق تقول نعيمة احدى العاشقات للحمام التقليدي "استحم مرة في الأسبوع، بثمن رمزي برفقة أبنائي الصغار، تساعدني في ذلك "الكسالة" المرأة التي اعتدت على خدماتها قبل زواجي وإلى يومنا هذا فعلاقتي بها علاقة طيبة تنبني على التعامل والتسامح قبل كل شيء".
أما الفئة الأخرى فقد أغرتها الاكسسوارات والأدوات الخاصة والتصاميم العصرية، والمدلكين الذين يعملون بتقنيات وأدوات حديثة وزيوت طبيعية، ومرهمات طبية في التدليك، مهتمين بكل أعضاء الجسم من خلال المفهوم الصحي، وإن كان ثمنها باهظا. يقول يوسف أحد أوفياء الحمام العصري " الحمام العصري وفر الكثير من الخدمات في الاستحمام، منها النظافة والأمان، الهدوء ثم خدمات المساعدين من المدلكين والمسؤولين العاملين بالحمام، فكلما دخلت متعبا خرجت وأنا في كامل النشاط والحيوية ".
مفارقة جعلتنا نتوجه بالسؤال لأحد المختصين في التدليك داخل حمام عصري بالدار البيضاء حول الخدمات التي تقدمها هذه الحمامات العصرية، قائلا: " نعمل دائما على تقديم خدمات رفيعة للزبائن بداية بإعداد مكان الاستحمام وتنظيفه، ثم تقديم المساعدة أثناء الاستحمام بعملية المساج بمنتوجات وزيوت طبيعية تساعد الجسم على الاسترخاء والتخلص من التعب وهو الأمر الذي جعل عدد كبير من الزبائن يحجون الينا ويفضلون الحمام العصري على باقي الحمامات الأخرى.
تصميم الفصول الأربعة
يستبعد الكثيرون قدرة الرشاشات والحمامات العصرية أو ما يعرف ب"الساونا" على الحلول مكان الحمامات التقليدية الشعبية رغم المنافسة القائمة بينهم على مستوى الخدمات التي توفرها الحمامات العصرية، وإن كانت تعتمد في ذلك على البخاخات البخارية الساخنة التي تعمل بالغاز، إلا أن هناك الكثير من عشاق الحمامات الشعبية الذين لايزالون يتمسكون بما تبقى منها ويصارعون من أجل بقائها، ويترددون عليها في مختلف أحياء المغرب فهي تمثل لديهم مكانا لقضاء لحظات ممتعة، وموروثا شعبيا منذ أقدم العصور، والسر في ذلك حسب رواد هذه الحمامات هو التصميم التقليدي الذي بنيت عليه، حيث شبهه البعض بأربعة فصول، فغالبا ما تمثل ثلاثة أو أربعة حجرات تقل درجة حرارتها من العليا في العمق إلى المعتدلة في المتوسط ثم الباردة في الحجرة الأولى المفضية إلى قاعة الراحة والاسترخاء، فيها يتخلص ويرتدي المستحمون ملابسهم لتوضع في دواليب ورفوف خصصت لهذا الغرض.
تعتمد أغلب الحمامات التقليدية في تسخين المياه على الحطب كمادة رئيسة وهو ما ينعكس على لذاذة الحمام وإقبال الناس عليه، بعكس الحمامات التي تعمل بالغاز أو الديزل.استعمال الحطب في تسخين المياه أمر استحسنه محمد قائلا: " أفضل الحمامات التي تعتمد الحطب لأنه مادة طبيعية لا تشكل أي خطر على صحة الإنسان". وللتعرف أكثر على هندسة الحمامات الشعبية قام فريق " الصحراء المغربية" بزيارة مجموعة من الحمامات بمختلف المناطق الشعبية في الدار البيضاء، فكانت المفاجأة أن وقع الاختيار على أحد الحمامات في منطقة مولاي رشيد في الدار البيضاء الذي لازال يتوافد عليه الزبائن رغم بنايته المتآكلة والآيلة للسقوط، فبمجرد ما تطأ قدماك أرض الحمام حتى تحس بأثر التشققات على مستوى بلاط الحمام، وبمختلف جدرانه، فضلا عن الروائح الكريهة المنبعثة من حجراته إلا أنه ورغم كل هذه اللأوصاف لازال الحمام يستقبل النساء والرجال للاستحمام، ما بعثنا على التساؤل حول مهمة لجن المراقبة لمنع مثل هذه الحمامات والتي قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه في أي لحظة. نزل السؤال كالصاعقة على أحد العاملين بالحمام ليتملص من الجواب قائلا: "أنا فقط أعمل ولست صاحب الحمام، ليس لي الحق في منع الناس من الدخول للحمام".
تنظيف وفق المتعارف عليه
تزخرأحياء البيضاء ودروبها بالحمامات التقليدية التي تغص بالناس أواخر الأسبوع وأيام الأعياد حسب العاملات بالحمام لذلك أصبح الاهتمام بنظافتها أمر ملح، لتكون عند حسن ظن روادها تقول الشعيبية كسالة بحمام شعبي إن نظافة الحمام هي السر وراء اقبال الناس عليه، فكلما كان الحمام نظيفا كلما استحم الناس في أحسن الظروف"، عملية تنظيف الحمام جعلتنا نتتبع الخطوات التي تقوم بها الشعبية كل صباح قبل دخول النسوة للحمام، وبمجرد ما تفتح أبواب الحمام تلف قطعة من التوب حولها وتشمر عن سواعدها لتبدأ معلنة حالة التأهب فتضع مسحوق "التنظيف وماء جافيل" في اناء ثم تبدأ في حك كل أركان الحمام دون استثناء، تقول الشعبية تنظيف الحمام يكون في الصباح الباكر قبل دخول النساء لأن هناك من لا يتحمل رائحة "ماء جافيل"، أو من له حساسية ضد هذه المادة. أما عن استخدام بعض المواد الأخرى في التنظيف "كالماء القاطع" أو بعض المواد الكيميائية تجيب الشعبية نحن نقوم بتنظيف الحمام بالمواد المسموح لنا بها وهي المواد المعتمدة في التنظيف باعتبارها مواد كافية لإزالة الجراثيم والميكروبات من الحمام". مضيفة "بعد دخول النساء نكتفي فقط بإزالة ما يخلفه النساء من أزبال أثناء الاستحمام حتى لا تتراكم، ولكي يحافظ الحمام على نظافته طيلة اليوم".
رأي الاخصائيين
وحسب الأخصائيين والمهتمين بهذا الشأن فإن الحمام التقليدي إذا احترم كل شروط النظافة فإنه يساهم في تنظيف الجسم، ويخلصه من السموم، والجلد الميت، ويكشف عن طبقة ناعمة في الجسم، إضافة إلى أنه يعمل على ترطيب وتنعيم البشرة ويساعد على التخلص من التوترات، ويبعث على الاسترخاء، فقد يساعد الحمام على التخلص من بعض الامراض، وقد يؤدي في نفس الوقت إلى مضاعفتها.
في هذا الإطار يؤكد البروفسور عبد العزيز عيشان أخصائي في أمراض الجهاز التنفسي، على أن للحمام البلدي تأثيرات ومضاعفات من حيث نسبة الرطوبة المرتفعة، قلة التهوية ونقص الأوكسجين مما يشكل اضطرابات في التنفس على المرأة الحامل والعجزة والأطفال الصغار وقصيري التنفس، مضيفا أنه في بعض الأحيان هناك أناس مصابون بالسل ومع ذلك يذهبون للحمام ويسعلون، مما يسبب انتقال الجراثيم عن طريق الهواء داخل الحمامات البلدية الصغيرة الفضاء وهذا ناتج عن عدم وعي الناس بهذه المسألة.
مشيرا إلى أن الحمام البلدي يجب أن يكون في مساحة كبيرة وذو تهوية كافية للمساعدة على دوران الأوكسجين، أو على الأقل يحتوي على منفذ للهواء وكراسي فردية حتى لا تختلط الميكروبات وتحدث عدوى، كما يجب أن تكون المجاري الصحية نظيفة حتى لا تتسبب للمستحمين في الاختناق التنفسي. وأوضح البروفسور أن هناك فئة أخرى قد تتعرض لاضطرابات في التنفس وهي السكان المجاورون لمثل هذه الحمامات، فبفعل الدخان المنبعث منها والناتج عن الحطب المحترق قد يصاب الشخص باختناق أو ضيق في التنفس، لذلك يؤكد البروفسور عبد العزيز عيشان أخصائي في أمراض الجهاز التنفسي أن الحمامات يجب أن تكون في مساحات بعيدة عن سكن المواطنين لتجنب الأضرار الناجمة عن التلوث وانبعاثات الدخان الصادر عن الحمامات.