يتعرض البعض إلى مواقف قد تبدو غريبة، ومنها ما يحدث عن محاولة إخبار صديق بكلمة مهمة يتم نسيانها رغم التيقن من معرفتها والشعور بقربها أو بأنها “على طرف اللسان” مثلما نردد دائمًا، وبحسب تقارير حديثة فإن ظاهرة طرف اللسان أو كما يطلق عليها العلماء اسم “ليثولوجيكا – lethologica” تحدث لأغلب الناس، لأن أدمغتنا تختلف عن جهاز الكمبيوتر الذي تخزّن فيه المعلومات بشكل منظم يجعل من السهل استعادة أي كلمة محفوظة داخله.
وكلمة “ليثولوجيكا” يونانية تمزج بين مصطلحين الأول هو “lethe” أي نسيان، والثاني هو “logos” أي كلمة، وذكر تقرير أن أصل هذا المصطلح يعود إلى عوالم الأساطير اليونانية القديمة، حيث تشير كلمة “Lethe” إلى “نهر النسيان”، الذي يؤدي شرب المياه منه إلى نسيان الذكريات، وتحدحين يحاول شخص ما تذكر كلمة معينة فلا يستطيع، أو قد يسترجع جزءًا منها، ولا نشعر بالراحة إلا إذا تذكرها، وقد يستغرق ذلك ساعات أو حتى أيامًا.
أسباب نسيان بعض الكلمات
تظهر دراسات علمية عدة أن هناك بضعة عوامل قد تزيد أو تقلل من حالات نسيان بعض الكلمات، فعلى سبيل المثال نجد أن بعض الأدوية المستخدمة في علاج أمراض اضطرابات النوم والتوتر تؤدي إلى زيادة تكرار ظاهرة “على طرف اللسان”، وعلى العكس، نجد أن الكافيين يقلل من حدوث هذه الظاهرة، لأن تناول فنجانين من القهوة يوميًا يزيد من أداء ذاكرتنا ويجعلنا لا نردد كثيرًا جملة “كانت على طرف لساني”، فالظاهرة تحدث لأن أدمغتنا لا تخزّن المعلومات بشكل منظم يجعل من السهل استعادة أي كلمة محفوظة داخله، في المقابل، نجد أن التقدم في العمر يؤدي لضعف في الذاكرة وبالتالي يزيد من حالات نسيان الكلمات.
والصم أيضًا
وتؤكد دراسة علمية أن الصم أيضًا يواجهون الأمر نفسه ولكن بطريقة مختلفة يمكن أن نطلق عليها “كانت على طرف إصبعي” حيث يستخدمون أصابعهم في لغة الإشارة.
وفي هذه الدراسة، قامت كارن إيموري، مديرة معمل اللغة وعلم الأعصاب الإدراكي بجامعة سان دييغو الأميركية، باختبار مجموعة من الصم الذين يستخدمون لغة الإشارة. وتوصلت إلو أن الصم يجدون صعوبة أحيانًا في تذكر بعض الكلمات، وأحيانًا يشكلون بأصابعهم أول حرف فقط من الكلمة.
الفرق بين نوعي الذاكرة
قبل بضع عقود صنّف علماء النفس المعرفيون (cognitive psychologists) نظام الذاكرة في الانسان على نظامين منفصلين، الذاكرة قصيرة الامد او التي تسمى الذاكرة العاملة (a short-term، or “working) والتي تحمل معلومات قليلة عن اشياء محددة نفكر بها حاليا ولفترة قصيرة ، ثم الذاكرة طويلة الامد (long-lasting memory) والتي تحمل كميات كبيرة من المعلومات والتجارب والافكار التي تم الحصول عليها خلال فترة الحياة.
هذين النوعين من الذاكرة يختلفان في نوعية التفاصيل التي يقدمانها، الذاكرة العاملة او القصيرة الامد توفر تفاصيل حادة مركزة عن اشياء قليلة نفكر بها في الوقت الحاضر بينما توفر الذاكرة طويلة الامد صورة اكثر عشوائية عن الكثير من الاشياء التي رأيناها او جربناها وهي تستطيع ان تستوعب كما كبير من المعلومات، إذا فإن تفاصيل الذاكرة ليست نقية وواضحة دائما كما انها قد لا تحتوي الا على خلاصة للاشياء التي حدثت والتي رأيناها.
دراسة سابقة نشرت بواسطة تيموثي ف برادي (Timothy F. Brady) عالم الاعصاب المعرفي (cognitive neuroscientist) في مؤسسة "ماساشوسدس" للتكنولوجيا وقد اقترح رفاقه في الدراسة ان الذاكرة طويلة الامد قد لا تكون بالعشوائية التي عرفت عنها، على أي حال فقد تضمن بحثهم محاولة لتذكر 3000 صورة لأشكال متنوعة – تشمل موادا كالحقائب واجهزة التحكم عن بعد واجهزة تحميص الخبز- وقد تم تقديم كل من هذه الصور خلال بضع ثواني.
وفي نهاية مرحلة المشاهدة سأل الباحثون المشاركين عن مدى تذكرهم للاجسام التي شاهدوها من خلال عرض بعض الاجسام عليهم وسؤالهم فيما اذا كانوا قد شاهدوها من قبل، وليس مستغربا فقد كانت النتيجة ان اكثر من 90% من الاجوبة كانت صحيحة حتى ولو كانت الاجسام بالالاف. إذا فهذا النجاح الباهر يعد شاهدا على القدرة الهائلة للذاكرة طويلة الامد. الاكثر دهشة هو مدى عمق التفاصيل التي استطاع المشاركون في التجربة الحصول عليها فقد كان المشاركون قادرين على اعطاء مواضع الاختلاف بين الاشكال التي شاهدوها والاشكال التي لم يشاهدوها فمثلا ماكنة تحميص الخبز التي شاهدوها تختلف عن الماكنة التي تم عرضها عليهم بعد فترة.
ووضعت إليزابث لفتس – واحدة من أشهر الباحثات في الذاكرة – 4 أسباب رئيسية للنسيان وهي: فشل الاستدعاء، التداخل، فشل التخزين والنسيان المدفوع.
1- فشل استدعاء المعلومات
يعد فقدان القدرة على استرجاع المعلومات من الذاكرة واحد من الأسباب المعروفة للنسيان. فما السبب وراء ذلك؟ نظرية التضاؤل واحدة من الأسباب المحتملة لحدوث ذلك. توفترض نظرية “التضاؤل” أن آثار الذاكرة تبدأ في الخفوت والاختفاء بمرور الوقت، فإذا لم يتم استذكار المعلومة وتكرارها، فسيتم فقدانها في النهاية، ومع ذلك فإن أحد المشاكل في هذه النظرية تتمثل في أن الأبحاث أثبتت أن المعلومات التي لا يتم تكرارها وتذكرها تستقر في الذاكرة طويلة الأجل.
2- تداخل الذاكرات مع بعضها
تفترض نظرية التداخل أن بعض الذكريات تتداخل مع ذكريات أخرى، فالتداخل يقترب من الحدوث، عندما تتشابه المعلومات الجديدة مع معلومات أخرى احتفظت بها الذاكرة مسبقا. وهناك نوعان أساسيان للتداخل:
التداخل الاستباقي: الذي يحدث عندما تصعب معلومة قديمة من تذكر معلومة جديدة.
التداخل بأثر رجعي: الذي يحدث عندما تتداخل معلومة جديدة مع قدرتك على تذكر معلومة قديمة تعلمتها مسبقا.
3- الفشل في تخزين المعلومات:
في بعض الأحيان لا يرتبط فقدان المعلومات بالنسيان بقدر ما يرتبط بحقيقة أن المعلومات لم تصل أصلًا إلى الذاكرة طويلة الأمد. فأحيانا يحول الفشل في التخزين دون دخول المعلومة للذاكرة طويلة الأجل، ففي أحد التجارب الشهيرة، طلب الباحثون من المبحوثين، تمييز النقدية الأمريكية من بين مجموعة من العملات الأخرى، فحاول أن تقوم بهذه التجربة على نفسك من خلال محاولة رسم نقدية من ذاكرتك، وبعد ذلك قارن بين ما رسمته وبين النقدية الحقيقية.
ما مدى جودة ما رسمته؟ ستكتشف أنك فقط كنت قادرًا على تذكر الشكل واللون، ولكن من المحتمل أن تنسى التفاصيل الفرعية. والسبب وراء ذلك أن التفاصيل الضرورية المميزة للنقدية من بين العملات الأخرى تم تدوينها في الذاكرة طويلة الأجل.
4- النسيان المدفوع
بعض الأحيان نسعى بجد لنسيان ذكريات، وخصوصا تلك المرتبطة بأحداث وخبرات مزعجة وصادمة، والشكلان الرئيسيان للنسيان المقصود:
النسيان الواعي، والنسيان اللا واعي.
ولكن النسيان اللاواعي غير مٌعترف به عالميا من كل علماء النفس، فواحدة من المشاكل المرتبطة بالنسيان اللاواعي أنه صعب إن لم يكن مستحيلا سواء بالنسبة للدراسة العلمية أو غير ذلك، بالإضافة إلى أن الأنشطة العقلية مثل: التكرار والتذكر، تٌعد وسائل هامة لتقوية الذاكرة، والذكريات المؤلمة أو الصادمة لأحداث الحياة نادرا ما يتم تذكرها أو مناقشتها أو تكراراها.
أسباب أخرى
الاضمحلال: المؤيّدون لنظريّة الاضمحلال يقولون إنَّ ذكرياتنا تختفي ببطء، وتتلاشى بسبب مرور الوقت دون استعادتها، ويمكنك تشبيه هذا الأمر إلى حدّ كبير برسالة خطّيّة في الرّمال، فكلّ موجة تتدفّق على الشّاطئ من المحيط تجعل الكتابة أقلّ وضوحًا حتى تختفي الكتابة في النّهاية تمامًا. وتمثّل الرّمال شبكة الخلايا الدّماغيّة التي تشكّل الذّاكرة في الدّماغ، بينما تمثّل أمواج المحيط مرور الزّمن.
التّداخل: غالبًا ما يناقض هذا مضمونَ التّداخل، إلّا أنَّ ساديه وزملاءَها يعتقدون أنَّه تصعب استعادة الذّكريات بسبب تداخل معلومات مشابهة لها تمَّ اكتسابها قبلَ أو بعدَ تشكيل هذه الذّكريات.
نعود إلى مثال الشّاطئ، ولكنْ هنا بَدَلَ أنْ تتآكل الرّسالة ببطء بسبب الأمواج، يأتي طفل إلى الشّاطئ ويخطّ فوق هذه الكتابة. وهذا يجعل قراءة الرّسالة أمرًا صعبًا، بل مستحيلًا، فالطّفل في هذا المثال يمثّل تجربة جديدة، والرّسالة التي كتبها هي المعلومات التي تركتها هذه التّجربة في الدّماغ، وهذا يؤدّي إلى النّسيان لأنّه بشكل أساسيّ يستبدل الذّكرى الأصليّة. هذه العمليّة يمكن أن تؤدّي أيضًا إلى تشكيل ذكرياتٍ كاذبة، وهو موضوعي المفضّل.
نظريّة التّمثيل
وضّحت ساديه وزملاؤها الكنديّون أنّ هاتين النّظريّتين لا تناقضان بعضهما بالضّرورة، فكلٌّ من نظريّتي الاضمحلال والتّداخل مهمّة لفهم النّسيان، ووفقًا لبحثهم الّذي يهتمّ بــ “نظريّة التّمثيل للنّسيان” فإنَّ السّبب الأوّل للنّسيان يعتمد على طبيعة الذّكرى الأساسيّة.
وجد الباحثون دعمًا لنظريّتهم عن النّسيان من خلال إجراء تجربة ذاكرة الكلمات، حيث ضمّت التّجربة 272 طالبًا من جامعة تورونتو، وتمّ تقسيم المشاركين عشوائيًا، وكانت شروط التّجربة تختلف من حيث مدّة تعلّمهم لبعض الكلمات، ومدّة تذكّر هذه الكلمات، وإلى أيّ حدّ تداخلت ذاكرة كلماتهم مع الأشياء كان عليهم القيام بها بين التّعلّم و التّذكّر ووفقًا للكتّاب فقد وجدوا دعمًا لفكرة أنّ الذّاكرة يمكن أن تتّخذ أحدَ شكلَين من التّمثيلات المختلفة في الدماغ، الألفة أو التّذكّر.
“الألفة” هي عمليّة الذّاكرة الّتي تسمح لنا أن نتذكّر شيئًا، ولكن دون تفاصيل محدّدة. هي فكرة أنّنا “نعرف” أنّه قد حدث شيء على الرّغم من أنّه لا يمكن أن نتذكّر سياقها الأصلي.
وهذا هو الحال عندما كنت تشعر بأنّك تعرف هذا الوجه، وهذا الرّجل يبدو مألوفًا جدًا، ولكنّك لا تستطيع أن تتذكر كيفَ عرفت هذا الشخص، وخلافًا لذلك، إن كنت قد “استرجعت” شيئًا ما، فأنت تستطيع تذكّر سياق الذّاكرة. في هذه العملية تتعرّف على هذا الرّجل، وتذكر اسمه، أو تفاصيل أخرى حاسمة، هذا هو إد.
دعونا نلقِ اللّوم على الحصين
يشير فريقنا الباحث الكنديّ أنَّ هذين النّوعين من تمثيلات الذّاكرة يعملان بشكلٍ مختلفٍ، ويبدوان مختلفَين في الدّماغ. ويُعتقد أنَّ كلّا منهما يعتمد بشكل مختلف على جزء أساسيّ من الدّماغ، ويسمَّى الحُصَيْن الّذي يعدّ هامًا لتشكيل الذّكريات.
الذّكريات القائمة على الاسترجاع -بدعم من الحصين- مقاومة نسبيًا للتّداخل فيما بينها. وهنا يكون الاضمحلال مصدرًا رئيسًا للنّسيان. وعلى العكس فإنّ الذّكرياتِ القائمةَ على الألفة -بدعم من البنى خارج الحُصين- معرّضة للتّداخل.