الدوافع التي تؤدي إلى الانتحار
تنظر الأديان إلى الانتحار بعين التحريم لأنَّها تعتبره تدخلاً بالمشيئة الإلهية وكفراً بالقدر، فالانتحار في أغلب حالاته دلالة على نفاذ الصبر والهروب من الإرادة الإلهية من وجهة النظر الدينية ما يعني الفشل في الامتحان، كما أنَّ هناك وجهات نظر متعددة حول أسباب الانتحار والظروف التي تدعو الإنسان لقتل نفسه، فهل يكن المنتحر واعياً بما يفعل؟! وهل لديه أسباب مقنعة ليقتل نفسه؟ هناك سلسلة معقدة من الدوافع التي تؤدي إلى الانتحار سنبدأ أولاً بالدوافع المباشرة الواضحة للانتحار قبل أن نعرض عليكم واحدة من أبرز النظريات الفلسفية المتعلقة بالانتحار وجدوى الحياة، ولنتمكن من توضيح الأسباب بشكل بسيط سنعتمد على الأمثلة من مشاهير المنتحرين في العالم: الانتحار هرباً من الموت المُذلِّ! الانتحار قرارٌ يحتاج إلى نوعٍ محددٍ من الشجاعة، إنَّها الشجاعة التي تولدها مشاعر اليأس والخوف والانكسار مجتمعة، وهذا ما سنجده في الحالة الأولى من حالات الانتحار، وهي حالة الانتحار هرباً من الموت المحتم، حيث يجد الإنسان نفسه أمام خيار الموت المحتَّم لكن بطريقة لا يرغب بها فيقدم على قتل نفسه، ولا نعتقد أن هناك مثالاً أبلغ من الفوهرر الألماني أدولف هتلر الذي انتحر مع زوجته قبل وصول السوفييت إلى مقره في برلين، وذلك كان بعد مفاضلة سريعة بين الانتحار والمصير الدموي الذي ينتظره إن وقع في الأسر، فقام في الثلاثين من نيسان/أبريل عام 1945 بوضع كبسولة سيانيد في فمه وأطلق النار على نفسه. حيث اعتقد أنَّ هذا الموت سيكون سهلاً مقارنة بما يمكن أن يحصل إذا تم إلقاء القبض عليه، كما انتحرت معه زوجته التي تزوجها قبل يوم واحد فقط! كذلك فعل وزير الدعاية النازي جوبلز حيث قتل عائلته كلها وانتحر هرباً من الموت المُذلِّ، لكننا سنجد حالات أخرى في ظروف مشابهة لم تتخذ هذا القرار على الرغم من حتمية الموت المُذلِّ أبرزهم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي. المقارنة بين الحياة المذَّلة والموت وهنا سنرى أن الموضوع سيأخذ تفكيراً أكثر من الحالة الأولى، ففي الحالة الأولى ربما كان قرار الانتحار فورياً، أو على الأقل يكون التنفيذ مرتبطاً بحدثٍ جديد، أما في الحالة الثانية سنجد أن الانتحار يأتي بعد تفكير عميق حيث لا يكون الاختيار بين نوعين من الموت، بل بين الموت أو الاستمرار بالحياة، وهنا غالباً ما يمثل هذا الانتحار موتاً مشرِّفاً بمواجهة حياة مذلَّة من وجهة نظر المنتحر على الأقل، وتتصل هذه المفاضلة بموضوع معين. فالتونسي محمد البوعزيزي الذي أضرم النار بنفسه بعد مشاجرة مع شرطة البلدية في تونس عام 2011 كان قد وصل إلى هذه المفاضلة بين الحياة المذلَّة والموت، ولم يكن البوعزيزي أول من أحرق نفسه في العالم، كذلك كان طيارو الكاميكازي اليابانيون في الحرب العالمية الثانية الذين كانوا يلقون قنابلهم ثم يسقطون مع طائراتهم فوق البوارج المعادية، وهذا يذكرنا بقول الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود: سأحملُ روحي على راحتي وأُلقي بها في مَهاوي الردى فإمَّا حياةٌ تسرُّ الصديقَ وإمَّا مماتٌ يغيظُ العِدا الكآبة والانتحار هذا النمط من الانتحار هو الأكثر انتشاراً بين المشاهير، وهو ما يحتاج إلى فترة طويلة نسبياً تسبق اتخاذ القرار النهائي، حيث يتم التفكير مليَّاً قبل أن يقدم الإنسان اليائس على الانتحار، وغالباً ما يقوم بعدة محاولات فاشلة حيث يلجأ المنتحر إلى اختيار طرقٍ غير فعالية في المحاولات الأولى، لكن في كل محاولة يقترب أكثر من محاولة ناجحة لقتل نفسه، لذلك لا بد أن يخضع لعلاج نفسي تخصصي كلُّ من نجا من محاولة الانتحار. لأنَّ هذه النجاة ما هي إلَّا نجاة مؤقتة من الغرق في الماء الضحل ستليها محاولة للتعمق في عرض بحر الموت، فالشاعر اليوناني كوستاس كاريوتاكيس (Kostas Karyotakis) بقي عشر ساعات يحاول أن ينتحر غرقاً في البحر، لكنه كان سباحاً ماهراً فلم يتمكن من إقناع نفسه بالغرق، فأطلق النار على نفسه في اليوم التالي!. خلاصة... يمكن أن نصنف ثلاثة أنواع من الانتحار تبعاً للدافع وراء الانتحار ولطبيعة القرار، فالأولى تتعلق بالهرب من الموت أو اختيار طريقة الموت (أقتل نفسي كي لا يقتلني أحد) وغالباً ما يكون القرار آنياً أو متعلقاً بحصول حدثٍ جديد، أمَّا الحالة الثانية فهي المقارنة بين الحياة المذلة والموت المشرِّف احتجاجاً، وغالباً ما يكون قراراً واعياً ومستقراً في النفس، فيما تكون الحالة الثالثة ذاتية تماماً حيث ينضج القرار ضمن مراحل زمنية طويلة نسبياً وتكون الكآبة واليأس دافعاً رئيسياً للتخلص من الوجود. فلسفة الانتحار أغلبنا يعرف أسطورة سيزيف اليوناني المحكوم عليه بدحرجة الصخرة إلى قمَّة الجبل بعد أن خدع هادِس إله الموت وهرب من عالم الأموات، لكن الحكم يفيد أيضاً أن تسقط الصخرة كلما اقترب سيزيف من القمَّة فيعيد دحرجتها فتسقط ويعيد دحرجتها... وهكذا إلى الأبد، هذا الرمز الذي استخدم في الأدب للتعبير عن الألم والخيبة الدائمة وعن أمور لا مجدية (السيزيفية)، ويصفه الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب فيقول: "وعرٌ هو المرقى إلى الجُلجُلةْ والصخرُ يا سيزيفُ ما أثقلهْ"، لكن ما علاقة سيزيف وصخرته بالانتحار؟!. حاول ألبير كامو الإجابة عن السؤال الوجودي الكبير "هل تستحق الحياة أن تعاش؟" من بين عشرات المؤلفات التي تحدثت عن الانتحار بشكل تحليلي مستقل أو ضمنته بين مواضيع أخرى يستوقفنا كتابٌ ألَّفه ألبير كامو بعنوان (أسطورة سيزيف)، في هذا الكتاب حاول كامو أن يفسر ما لم يتمكن من تفسيره في مسرحياته ورواياته، حاول أن يفسر الجدوى من الحياة! كما أنَّ هذا الكتاب من الكتب الفلسفية الصعبة التي تحاول أن تفسر مدى قدرة الإنسان على الاستمرار في الحياة، حيث يقول ألبير كامو في السطر الأول: "هناك مشكلة فلسفية هامة وحيدة، هي الانتحار؛ فالحكم بأن الحياة تستحق أن تعاش يسمو إلى منزلة الجواب على السؤال الأساسي في الفلسفة وكل المسائل الباقية (...) تأتي بعد ذلك" ما يهمنا من كتاب كاموا في هذا المقام هو ما اعتبره أهم الأسباب التي تقود إلى الانتحار (اللاجدوى)، على الرغم من أن كاموا خاض في التفاصيل الدقيقة والتحليل الفلسفي العميق للظاهرة لكننا لن نتمكن من مجاراته في مادتنا المتواضعة هذه، ولذلك سنمسك باللا جدوى لنفسر الانتحار من خلالها، فالإنسان يضع نفسه أمام تقييم فلسفي لحياته وإن كان وجوده مجدياً أم لا، فإذا آمن الإنسان بعدم جدوى هذه الحياة سيقوده ذلك إلى الإيمان بأن الحياة لا تستحق أن تعاش، فيقرر أن يتخلص من وجوده من خلال قتل نفسه. ويرى كامو أن الأشخاص المؤمنين بوجود عوالم أخرى يستبعدون الانتحار لأن إيمانهم بالآخرة ووجود حياة أخرى فيها ثواب وعقاب يجعل الحياة مجدية بالنسبة لهم، فهي بذلك مجرد مرحلة من رحلة أبعد من مجرد الحياة نفسها، بينما لا يجد من لا يؤمن بوجود الآخرة ما يقنعه بجدوى وجوده في هذه الحياة إذا وصل إلى مرحلة التفكير بالجدوى. وفي النص التالي من الفصل الأول من الكتاب سنرى كامو يوضح أن أسباب الانتحار تتعلق بتقييم الإنسان لجدوى الحياة أو قيمة الموضوع الذي يتصدى له في هذه الحياة، حيث سنجد من تراجع عن موقفه حفظاً لحياته، ومن واجه الموت دفاعاً عن موقفه الذي يعطيه سبباً للحياة! ندعوكم للتعمق بالكلمات التالية... يقول كامو: "لم أر أحداً مات من أجل التفكير في الكينونة! فغاليليو الذي عرف حقيقة علمية ذات أهمية عظيمة تخلى عنها بسهولة في اللحظة التي هددت بها حياته، وبمعنى من المعاني نجد أنَّه حسناً فعل، فلم تكن تلك الحقيقة لتستحق المشنقة! فكون الأرض تدور حول الشمس أو الشمس تدور حول الأرض هو من الأمور التي تتصف بأعمق اللا اكتراث، وإنَّها مسألة لا جدوى فيها أن يقول الإنسان الحقيقة، ومن النواحي الأخرى فإنني أجد الكثيرين يموتون لأنهم يقررون أنَّ الحياة لا تستحق أن تعاش، وأجد آخرين يذهبون ضحية القتل بطريقة متناقضة لأنهم يفعلون ذلك بسبب الأفكار أو الأوهام التي تهبهم سبباً يعيشون من أجله (فما هو سبب ممتاز للعيش هو أيضاً سبب ممتاز للموت)". أعراض ما قبل الانتحار لا يمكن التعامل مع أعراض ما قبل الانتحار كما نتعامل مع أعراض مرض عضوي، حيث لا تكون هذه الأعراض مستقرة دائماً كما أنَّها ليست شرطاً لازماً للانتحار، أي أن وجودها لا يعني بالضرورة أنَّ من يعاني منها سيلجأ إلى الانتحار، سنذكر لكم أبرز الأعراض التي تبدو على شخص اتخذ قراره بقتل نفسه، وهنا نتحدث عن الحالة التي يكون فيها القرار قد نضج خلال فترة زمنية لا بأس بها، حيث لن تبدو هذه الأعراض على من يتخذ القرار فجأة: تغيرات سلوكية حادة لا بد أن يسبق ذلك فترة من الكآبة والحزن المفرط الذي لا يمكن أن يخفي نفسه عن الآخرين، ثم سنلاحظ تغيراً جوهرياً في السلوك، حيث يميل الشخص المقبل على الانتحار إلى الهدوء والانعزال والشرود غالباً، كما تنعدم رغبته في أداء الكثير من الممارسات الممتعة بالنسبة له، ويصاب بفقدان الشهية واضطرابات النوم، كما يلاحظ أن المقبلين على الانتحار يعانون من تغيرات مزاجية متضاربة ومفاجئة، حيث يعبرون في اليوم الواحد عن عشرات المشاعر المختلفة من الأمل المفرط إلى الخيبة المفرطة أو من السعادة المفاجئة إلى الحزن المفاجئ. تنفيذ أعمال خطرة في بعض الحالات قد يقوم المقدم على الانتحار بتصرفات مجنونة وخطيرة لم يقم بها سابقاً ولم يفكر بها حتى، مثل الإفراط بتعاطي المخدرات والقيادة بسرعة كبيرة أو تجربة بعض الألعاب الخطيرة، حيث يعتبر ذلك تعبيراً أوليَّاً عن فقدانه شعوره بقيمة حياته. المقبل على الانتحار يودع المقربين منه غالباً ما يلجأ المقدم على الانتحار إلى توديع الأشخاص المقربين منه فيقوم بتنظيم جدولٍ للزيارات وربما يحاول أيضاً أن يعتذر من بعض الأشخاص دون أن يفهموا سبب هذا الاعتذار. ترتيب الحياة بعد الموت أيضاً يحاول المنتحر أن يرتب أموره لمرحلة ما بعد موته، قد يتبرع بممتلكاته أو يوزع مقتنياته الشخصية على أفراد العائلة، وربما يقوم بوهب أعضائه لبنك الأعضاء، كما سيحاول في بعض الحالات أن يصلح علاقته مع الأشخاص الذين يكرهونه ليموت مطمئناً! وقد يشتري قبراً ويحجز صالة العزاء مسبقاً. التهديد بالانتحار في بعض الحالات يقوم المقبل على الانتحار بالتهديد به، حيث يخبر المحيطين به أنَّه سيقتل نفسه إن لم ينفذوا رغبة ما، وهذا لا يعني بالضرورة أنَّه لن يفعل كما لا يعني بالضرورة أنَّه سيفعل ذلك، لكن التهديد بالانتحار إذا ترافق مع كآبة شديدة وحزن مفرط لا بد أن يتم أخذه على محمل الجد. الحديث عن الانتحار غالباً ما يتحدث المقبل على الانتحار عن قيمة الحياة والرغبة بالموت، وربما يتحدث عن الانتحار بطريقة مباشرة، كما سيحاول أن يقرأ أكثر عن الأشخاص المشهورين الذين قتلوا أنفسهم ليجد من يشاركه يأسه وربما ذنبه!. ملاحظات مهمة عن أعراض ما قبل الانتحار الكآبة المفرطة من أهم أعراض ما قبل الانتحار التي تدعو إلى مراقبة الشخص المصاب بالكآبة حتى وإن لم تظهر الأعراض الأخرى عليه. سيبدأ الشخص المقبل على الانتحار بتجهيز أدوات تتعلق بالانتحار، مثل الحصول على كمية كبيرة من كبسولات الدواء أو شراء بندقية أو مشاهدة فيديوهات عبر اليوتيوب عن وسائل الانتحار. إن اجتماع هذه الأعراض لا يعني بالضرورة إقبال الشخص على الانتحار، لكن بالضرورة يجب أن يتم التعامل معه من قبل شخص مختص. لا يشترط أن تكون الأعراض السابقة ظاهرةً بوضوح، خاصة وأن الذي اتخذ قراره بالانتحار سيعزل نفسه قدر الإمكان عن المحيطين به. الشخص الذي لديه محاولات سابقة للانتحار أكثر عرضة للنجاح في المحاولة اللاحقة. الأشخاص الذين يعانون من فرط في الحساسية تجاه الفقدان أو الهجر أو الذين لديهم حساسية مبالغ بها تجاه الأزمات العاطفية أكثر عرضة لمحاولة الانتحار، لذلك يجب مراقبتهم عند تعرضهم لهذه الأزمات. .
Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©
Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©
أرسل تعليقك