الترف، وهكذا بين ليلة وضحاها أصبح كل ما هو بعيد المنال ويصعب الحصول عليه ترفا تلهث وراءه المرأة ويبحث عنه الرجل.
ولا يختلف اثنان حول ذكاء تجربة "هيرميس"، سواء كانت الحقيبة فعلًا تتطلب كل هذه الأشهر لإنجازها وتنفيذها أم لعبة ترويجية وتسويقية، المهم أنها التزمت بالحرفية لتسويقها تحت شعار "صنع باليد". وقد حاولت مجموعة من بيوت الأزياء والإكسسوارات الأخرى أن تحذو حذوها، إلا أنها لم تنجح بالقدر نفسها، وهو ما أوحى لهم بخلق أفكار مبتكرة مماثلة، نذكر منها مثلا "صنع على المقاس" أو "حسب الطلب"، أي أن الزبون يستطيع أن يحصل على منتج ليس على مقاسه فحسب، بل أيضًا بمواصفات تحمل بصماته الخاصة، ويكون له فيها رأي مباشر، من حيث اختيار اللون والخامة، وما شابه من أمور لا يقدر عليها أيا كان.
فالترف بمعناه التقليدي كان ولا يزال مرادفا لقدرات شرائية عالية للزبون، إلى جانب الوصول على شيء لم يسبقه إليه أحد، أو لا يمكن لغيره الحصول عليه. والطريف أنه كلما اجتهد صناع الترف في مواكبة متطلبات هذا الزبون، تغيرت أولوياته ومفهومه للترف.
لكن ربما يكون التحدي أكبر حاليًا مع جيل الألفية وعصر "السيلفي" والصورة. هذا الجيل يريد أن تكون متكاملة، إذ ما فائدة حقيبة لا مثيل لها إذا كانت من تحملها لا تتمتع بمواصفات الرشاقة والثقة والإبهار؟ وإذا كان هذا الأمر يؤرق حاليا صناع الجمال والأناقة والساعات، وغيرهم ممن تعودوا على التعامل مع زبون مقتدر يبحث عن التفرد بأي ثمن، فإنه يُثلج صدور كل من دخلوا خلال السنوات الأخيرة على الخط ببيعهم الترف على أنه راحة جسدية ونفسية، لا سيما أنه بإمكانهم مخاطبة شرائح أكبر.
وهذا ما يفسر انتعاش الأماكن السياحية البعيدة التي لا يصل إليها السائح العادي الذي يستعمل الطيران الاقتصادي، كما توفر له نشاطات مبتكرة لإغرائه إلى جانب علاجات صحية بات يشعر أنه في أمس الحاجة إليها في زمن يتسارع إيقاعه ويكاد يقطع أنفاسه.
ومن هذا المنظور تغير الترف، فهو الآن حالة نفسية وجسدية على حد سواء، لا يكتمل الثاني من دون الأول والعكس.
لهذا ليس غريبا أن تصبح لائحة الانتظار لبعض هذه الوجهات أو الفنادق بطول لائحة الانتظار لحقائب "هيرميس" أو أكثر.
ففي بعض الحالات تحتاج إلى وساطات وتدخلات للحصول على غرفة، وليس أدل على هذا من فندق "لاريزيرف" La Reserve بباريس الذي فتح أبوابه منذ سنتين تقريبا، ومن الصعب الحصول على غرفة فيه من دون حجز مسبق قد يطول أشهرا.
والسبب ليس قربه من قصر الإليزيه أو "لو غران باليه"، وبالتالي من أماكن التسوق التي يوفرها كل من "أفينو مونتين" وشارع "سانت أونوريه" فحسب، بل أيضا بسبب معماره الكلاسيكي الأرستقراطي، وخدماته المتطورة التي تجعل الزائر يشعر بأهميته وبراحة نفسية.
فهو يمنحه تجربة لا مثيل لها وكأن الزمن عاد به إلى عصر إدوارد الثامن وزوجته لايدي سيمسون، الذي تخلى عن عرش بريطانيا من أجلها، وذلك بفضل فخامته وسريته وديكوراته التي صممها المهندس المعروف جاك غارسيا.وفي حال شعور الزائر لهذا الفندق أن إيقاع باريس متسارع هو الآخر، وفضل الابتعاد عنه ومعانقة الطبيعة الخلابة والهواء النقي فإن الفندق له فروع أخرى، واحد منها في جنيف، والثاني في أنترلاكن، ينام تحت أقدام بحيرتين: The Victoria Junfrau Grand Hotel.
وهذا الأخير تحديدا يُعطي للترف جرعة صحية عالية، خاصة أنه يتوجه لمن يريدون شحذ طاقتهم وإنقاص أوزانهم وتحسين صحتهم النفسية والجسدية دون التخلي عن المتعة التي توفرها تلال وأنهار إنترلاكن ومطاعم الفندق الصحي المتنوعة.
لكنك إذا كنت هناك لغرض صحي فإن كل لقمة تتناولها فيه ستخضع لتحليلات الطبيب ومراقبته.
فالجناح المخصص للعلاج والعناية بالبشرة والجمال مثلا "دي فيكتوريا جافراو غراند أوتيل آند سبا" يحتل مساحة لا يستهان بها، وبالإضافة إلى المناظر البانورامية التي تشد الأنفاس وتحفز على المشي لساعات، سيتمكن الزائر من اتباع حمية صحية تحت إشراف مختص يشخص حالته ومتطلباته، ما إذا كانت للتخلص من التوتر والاسترخاء أو إنقاص الوزن أو فقط تحسين الطاقة ونضارة البشرة.
وفي آخر الزيارة يعود الزائر إلى حياته وهو مُسلح بكل ما تعلمه واستفاد منه خلال إقامته.
ورغم أن هذه البرامج الصحية والجمالية تناسب كل الطبقات فإنها مفصلة على مقاس رجال وسيدات الأعمال أكثر لكونهم أكثر عرضة للتوتر والضغوط.ونظرا لكون صاحب هذه السلسلة من الفنادق الصحية، ميشال ريبييه، من أغنى فرنسي يعيش في سويسرا، فهو يعرف معنى الاستمتاع بثمار نجاحه ومدى الحاجة التي يحتاج إليها أمثاله لشحذ الطاقة. متعته تكمن أيضا في البحث عن كريمات ومواد تجميلية تُبعد شبح الشيخوخة عن الوجه والجسم، ما يفسر أن كل المنتجات التي تستعمل في منتجعاته ومصحاته من ابتكاره.
بيد أنه يعرف تماما أنه لا يمكن الاعتماد عليها وحدها للحصول على النضارة والشباب، بل من الضروري إرفاقها ببرامج صحية يُشرف عليها خبراء تغذية ومتخصصون.وتعد تجربة المليونير الفرنسي ميشال ريبييه من بين العشرات من المصحات والمنتجعات، التي دخلت صناعة الترف وتروج لها الطبقات الأرستقراطية ونجوم هوليوود مثل غوينيث بالترو.
كما أن كتاب "10 أسباب تجعلك تشعر عجوزاً وبديناً: دليلك للحفاظ على الشباب والرشاقة والسعادة" للدكتور فرانك ليبمان يؤكد التوجه الجديد بأن الصحة والشباب هما منبع السعادة وعنوان الترف الجديد.
فالدكتور ليبمان بمثابة الأب الروحي للمصممة دونا كاران وأريانا هفنغتون، وكيفين بيكن، وبوبي براون وغيرهن. وتبلغ قيمة الاستشارة المبدئية لنحو ساعة ونصف معه بـ800 دولار، ومع ذلك فإن هذا اللقاء يعتبر ذروة الترف بالنسبة لمن يبحثون عن السكينة النفسية وما يترتب عنها من ثقة وإحساس بالجمال.
فعالم الموضة جرب كل شيء من الـ"هيروين شيك" إلى النحافة المفرطة، مرورا ببيع قطع تحاكي التحف الفنية تفردا وجمالا، وفي النهاية اكتشف أن منبع السعادة الحقيقي يكمن بداخل كل واحد منا، وأن جمال المظهر يتطلب رضا ذاتيا أولا وأخيرا، وهذا يحتاج إلى عمليات تغذية وإنعاش وتدليل. بعبارة صحيحة، فإن الحياة "صحية" أصبحت موضة قائمة بذاتها تُبرر صرف مبالغ كبيرة للوصول إليها، مقارنة بالإكسسوارات والأزياء.
فالموضة عموما أصبحت تُرحب بمزج الغالي والرخيص بفضل توفر محلات كبيرة مثل "زارا" وبالتالي لم تعد تتطلب مبالغ باهظة للحصول على الأناقة. كما أصبح من الممكن استئجار حقيبة من "هيرميس" أو "شانيل" لمدة قصيرة لإشباع الرغبة فيها أو للتباهي، بل أصبح من الممكن التظاهر بامتلاك سيارة فاخرة بسائق خاص بفضل خدمة "أوبر" وهكذا.
لكن كل هذا اللهاث وراء المظاهر وآخر الصيحات والصرعات لم يُشف الغليل، لأن إيقاع الحياة تغير مع جيل الألفية ومعه تغير مفهوم الترف. وبما أن هذا الجيل هو الذي يحاول صناع الترف استقطابه حاليا فإنهم باتوا يحتاجون إلى لغة مختلفة لمخاطبته، لا سيما أنهم أدركوا أنه يعتبر شراء منتج بسعر يضاهي شراء سيارة أو شقة صغيرة من الكماليات التي يفضل عليها ما يجعل حياته أفضل، مثل السفر إلى مكان بعيد، والإقامة في فندق لا يستقبل أيا كان حتى يحصل على تجربة فريدة من نوعها يؤرخها من خلال صور "سيلفي".
وبعد أن كانت هذه الأمور تجري في سرية بالنسبة للجيل السابق، من عمليات التجميل أو تخسيس الوزن إلى التخلص من السلوليت أو مكافحة علامات التقدم في العمر، أصبحت الآن علانية من خلال فيديوهات حية أو تغريدات مرفقة بصور، وطبعا "هاشتاغ" خاص بالفترة التي يتم قضاؤها في المنتجع. فهذه الصور باتت ترمز لمكانة اجتماعية مثل حمل حقيبة من هيرميس تماما.