يرفض اليونانيون القدامى في الماضي تعليم فاقدي السمع، اعتقاداً منهم بأنه من المستحيل تعليم الصم؛ لتأتي بعدها نظريات جارحة أخرى، إذ كان ينظر لفقدان حاسة السمع عند الطفل على أنه عقاب للأهل لخطاياهم.
لحسن الحظ بدأ العالم يتطور والثقافة تتبلور، فبفضل الراهب الإسباني البنيدكتي بونسي دي ليون الذي كان أول من أطلق طريقة مبتكرة لتعليم فاقدي السمع من خلال قراءة الشفاه وحركتها للتعرف على الكلمات واللفظ، جاء هذا الأسلوب بعد أن كانت الطريقة الوحيدة للتعامل مع فاقدي السمع عن طريق لغة الإشارة التي بدأت في جزيرة مارتا الإسبانية.
هذه هي باختصار قصة نشأة لغة الإشارة وقراءة الشفاه التي تعرف اليوم بـ«المشافهة»، ولكن القصة الأجمل هي قصة مريم الشهابي التي تحدت العلم والأطباء والمجتمع العربي ونطقت وتكلمت وتعلمت وتخرجت ونجحت بفضل الحب الذي زرعه والداها فيها منذ أن عرفا من الأطباء وهي في سن السنة ونصف السنة بأنها لا تسمع وبالتالي لن تتكلم.
رأيت مريم في مقابلة على موقع «إنستغرام» مع الإعلامية ميسون عزام خلال الحجر، وبدأت المشاهدة متأخرة قليلاً، لم أعرف مريم، ولكن بمجرد أن رأيت ابتسامتها وفهمت قصتها، تسمرت أمام شاشة هاتفي، وسمعت هذه المرأة الجميلة وهي تتكلم اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة وبلفظ رائع، وبدأت أحلم بكتابة هذه السطور لأن مريم هي نسمة من الإيجابية في زمن الوباء، وكم نحن بحاجة إلى قصة جميلة فيها المعاناة وفيها العبرة والإنسانية والإيجابية.
تواصلت مع مريم عن طريق الكتابة، رحبت بفكرتي وبدأ الحوار المكتوب، فعرفتني بنفسها وكتبت: «أنا أم مريم من ذوي الهمم السمعية من مواليد 5 أغسطس (آب) 1988، أم لطفلتين ياسمين وخولة، خريجة الجامعة الأهلية في البحرين دفعة عام 2010 بدرجة تفوق، أعمل في قسم الرقابة المالية في بنك البحرين الوطني منذ عام 2011».
أدرك والداها بأنها تعاني من مشكلة بعدما لاحظا أنها لم تنطق بأي كلمة وهي في سن السنة ونصف، وبدأت العلاج وهي في سن السنتين، ردة فعل أهلها كانت مثل أي أهل يتلقون خبراً بهذا الوقع، لا سيما أن المجتمع العربي يطلق الكثير من العبارات المسيئة لمن هم من ذوي الاحتياجات الخاصة، فرفض والداها تسمية ابنتهما بالمعاقة وبدآ رحلة البحث عن حل لمريم، وقطع والدها وعداً على نفسه بأنه سيجعل مريم تنطق.
ذكرت مريم بأن الطبيب الذي شخص حالتها، قال لأهلها إنه يعلن وفاتها بسبب جهل الأطباء للثقافة في مشاكل السمع، فلم يخطر ببال والدها بأنه سيرزق بطفل ناقص الحواس، ولكن حب والدها جعله يتخطى الصدمة في فترة قصيرة جداً لا تتعدى النصف ساعة وهذه معجزة حب حقيقية.
بحسب مريم فمنذ 30 عاماً كانت المعينات السمعية بسيطة جداً بمعنى آخر لا تفي بالغرض المطلوب خاصة بالنسبة لفاقدي السمع الشديد مثلها، وكان السائد في البحرين وفي عموم العالم العربي والعالم أيضاً ثقافة الصم والبكم. وأن على فاقد السمع إذا أراد أن يتواصل مع الآخرين أن يستخدم لغة الإشارة، إلا أن والدها بدأ بالبحث عن طريقة ومكان يمكنني من الكلام بمجرد معرفته بإعاقتها. كان مشتاقاً لسماع كلمة بابا.
في أميركا ثقافة الإشارة هي السائدة ولكن هناك بعض المعاهد الخاصة تعلم لغة المشافهة بالاعتماد على البقايا السمعية، لكن حالة مريم كانت صعبة لأنها تعاني من فقدان شديد في السمع وفي تلك الحقبة لم يكن يوجد معين سمعي يمكن أن يرفع درجة سمعها.
ففي البحرين كانت لغة الإشارة أو ثقافة الصم والبكم هي السائدة، وبعد بحث طويل في عموم العالم العربي توصل والدها إلى أن في مصر توجد بعض المراكز التي تعلم النطق، فانتقلت للعيش في القاهرة مع أخيها الصغير صالح برفقة والدتهما، ولكن ولسوء الحظ تبين أن هذا المعهد لا فائدة منه.
لم يتوقف والدها عن البحث فوجد طبيباً متميزاً في عيادة خاصة يدعى د. محمد بركة، يعلم النطق عن طريق قراءة الشفاه، وكان له الدور الأكبر في تعليمها الكلام عن طريق قراءة الشفاه.
كانت تواظب مريم على الذهاب إلى الطبيب يومياً لمدة 40 دقيقة، وكانت تقضي بقية اليوم في صف الروضة ومع والدتها التي كان لها دور كبير جداً وحاسم في تطورها لأنها وهبت حياتها وتفرغت لذلك.
وبعد جهد من التعلم والمواظبة نطقت مريم بكلمة «ماما» لأول مرة في حياتها وهي في سن السنتين.
عانت مريم ولا تزال من التنمر ولكنها دربت نفسها على التعامل معه من خلال تعويض هذا الشعور المقيت بغلاف من الحنان من الوالدين اللذين غرسا في طفلها روح الثقة بالنفس والنظرة الإيجابية للحياة، فبذلك يمكن تخطي كل الصعوبات، فالحب يذلل كل العقبات.
لطالما شعرت مريم بأنها مختلفة عن غيرها إلا أن مثابرتها والدعم الذي تلقته من حولها جعلها تتخطى النظرة الخاطئة من الذين لا يعرفون كيف يتصرفون مع ذوي الهمم.
درست مريم في مدرسة حكومية، التحقت بها في سن السادسة وهي السن التي يبدأ فيها الطلاب الدراسة. وكانت أول طفلة من ذوي الهمم السمعية تلتحق بالمدرسة، وقد قبلت مديرة المدرسة الأستاذة بهيجة الديلمي التحدي، وكذلك مدرسة الفصل الأستاذة فاطمة عبد الوهاب.
لم تكتف مريم بالتمكن من النطق عن طريقة قراءة الشفاه إنما أرادت بأن تكمل دراستها وتكون شخصيتها ومستقبلها شأنها شأن الآخرين، فكل يوم ترافقه التحديات، مع فارق أن هذه التحديات تقويها وتزيد ثقتها بنفسها، فتقول مريم: «إنني أصبحت معجونة بها، فهي أصبحت جزءا من حياتي مثل الهواء والماء، ولذلك وبحمد الله كل يوم أزداد قوة وأزداد إيمانا بنفسي وكذلك تزداد ثقة الآخرين بي، لا بل أصبحت مصدر إلهام لهم وهذا من فضل الله علي».
وعن سؤالها عما هو أصعب شيء في قراءة الشفاه، ردت مريم: «عندما يكون الفم صغيراً جداً أو الشفاه رقيقة وغير بارزة».
وتذكر مريم بأن ما جعلها على ما هي عليه هو إصرار والديها على التعامل معها وكأنها طفلة طبيعية وليست فاقدة السمع، ووصفت طفولتها بالسعيدة لدرجة لا يمكن أن توصف، وكانت سنوات الجامعة من أجمل سنين عمرها.
قالت مريم جملة أحزنتني: «لم أدرك أنني معاقة إلا عندما كبرت واندمجت في المجتمع، والدي حاول المستحيل وتحدى الموروث بكل تفاصيله كي يجعلني طفلة حقها أن تعيش كبقية الأطفال، لكن المجتمع يظلم أحياناً»، وعن سؤالنا عن الزواج والإنجاب، قالت مريم: «بكل صراحة كنت خائفة في فترة حملي بطفلتي الأولى وأحسست بشعور أمي وأبي وأرفع لهما القبعة على دعمهما لي وقوتهما وإيمانهما».
اليوم مريم هي أم لطفلتين، ياسمين عمرها (4 سنوات) وخولة (سنة)... «علاقتي جميلة جداً مع ابنتي وذلك بفضل التربية والرعاية التي حصلت عليها في طفولتي، أريد لهما أن تعيشا جمال الطفولة وسعادتها التي عشتها، والداي غرزا فينا كيف تسعد وتحيا الأسرة بالحب».
أكثر كلمة رددتها مريم في مقابلتها هذه هي «الحب»، فوالدها كتب كتاباً بعنوان «حبيبتي ابنتي... سميتها... مريم»، شرح فيه الأحاسيس والصعوبات ويوميات مريم.
لكن مريم لا تنسى فضل والدتها التي وصفتها بالجندي المجهول، وقالت إنه لا توجد كلمات تصف حبها لها، ومهما حاولت أن أشرح دورها في حياتها فلن تفيها حقها، فهي دائماً لها ولبقية الأسرة كالشمعة التي تحترق لتنير الدرب للآخرين، «لم أسمع منها كلمة جارحة حتى وهي معي في الغربة لمدة أربع سنوات بعيدة عن والدي ووطنها وأسرتها، لم أرها إلا مبتسمة ونحن في الغربة من أجلي».
وتابعت مريم: «والدي كما أسميه دائماً أكسجين حياتي وفي بعض الأحيان عشقي الممنوع، نحن روح واحدة تعيش في جسدين».
وسألت «الشرق الأوسط» مريم عن تأقلمها مع التعايش في ظل وباء كورونا، فأجابت بطبعها الإيجابي: «كما يقولون رب ضارة نافعة، أنظر إلى نصف الكأس الممتلئة، كيف؟ الآن أعمل من البيت، أولادي وزوجي وأمي وأبي يعيشون معي في المنزل نفسه وسأنتقل لبيتي بعد العيد، نعيش كأننا في إجازة، هناك تفاهم وتناغم كبير بيننا والحب يجمعنا. أعتقد أن هذه الجائحة علمتنا قيمة الترابط الأسري».
وعن المستقبل، حلم مريم أن تُعطى الفرصة لتخدم مجتمعها بشكل خاص والإنسانية بشكل عام. فهي تشارك تجربتها مع أسر ذوي الهمم السمعية، وبخاصة في مركز الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود لتنمية السمع والنطق التابع للجمعية البحرينية لتنمية الطفولة.
وعن نظرة المجتمعات العربية للإعاقات الجسدية بشكل عام، تقول مريم: «للأسف الشديد مجتمعاتنا العربية بحاجة إلى هزة كبيرة في موروثها بشأن الأطفال ذوي الهمم، فهم لهم حقوق يجب أن تُعطى إليهم كاملة، هذا جانب والجانب الآخر هو خلق وعي حقيقي لأسر ذوي الهمم بأن أطفالهم يريدون منهم بالدرجة الأولى الحب وتقبلهم كما هم، والباقي تفاصيل، وبتكاتف الأسر والمجتمع يمكننا أن نؤسس لمجتمع قادر على تحويل هذه الفئة التي تشكل حوالي 10 إلى 15 في المائة من أفراد المجتمع من عبء على المجتمع إلى مصدر إلهام وفخر وقوة للمجتمع».
وتابعت مريم أنها تستخدم كل التقنيات الحديثة للتواصل، إنما قد تكون أحيانا مشكلة من قبل الشخص الذي أكلمه بسبب تأففه من طريقة نطقها أو في طلبها منه أن يعيد السؤال فيفقد صبره. «لا أفكر كثيراً في السلبيات، وأرى رغم كل التحديات أنني محظوظة بأشياء كثيرة أخرى، وبخاصة حب الناس الذين أغرس فيهم روح التفاؤل وحب الحياة».
وختمت مريم المقابلة بعبرة جميلة: «دعم المجتمعات لذوي الهمم، دليل تحضر وتقدم. والأسر هي حجر الزاوية في نقل أطفالها من عالم الإبداع والعطاء. وأقول لذوي الهمم ثقوا بنفسكم... حبوا أنفسكم... لأنكم مصدر قوة وإلهام لمجتمعاتكم».
قد يهمك ايضاً:
دراسة حديثة تكشف أن الأطفال لا ينقلون وباء "كورونا" للبالغين
دراسة برازيلية تحذِّر من التأثير النفسي للحجر المنزلي على الأطفال